#أقلام_و_لكن.........
كما كنتي حبيبة
''''''''''''''''''''''''
بقلم
محمود طنطاوي
بدأت السماء تمطر فى الخارج
أصوات تعلو هنا وهناك
ما بين أسرة تتحرك و أناس حولها و معاطف بيضاء و قد اختلط الحابل بالنابل و لا يعبأ أحد إلا بذويه
إنه المشفى بكل ما فيه من صخب وضجيج و أصوات ما بين الهمس و الصراخ .. أصوات ترجو الرحمة من خالقها بأن تصبح الأمور كما كانت..
فقط كما كانت ..
و وسط كل هذا الضجيج وقف هو ينظر إليها ...دون أن ينطق بكلمة واحدة
طفق ينظر إليها و هى مستلقية أمامه على سرير فى قسم الإستقبال بالمشفى فاقدة للوعى و وجهها محاط بالكدمات و السجحات و قد وضع بساعدها الأيسر إنبوبا متصلا بأحد المحاليل الطبية
وقال بشرود حزين :
مرت ثلاث سنوات أليس كذلك ؟!!
سكت هنية وهو يستمع إلى صوت هطول المطر الذى بدأ يعلو و وتيرته التى بدأت تشتد ثم قال :
أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب الذى سأخبرك فيه كم أحببتك
و كم اشتاقت نفسى لرؤياك
و كم بغضت اللحظة التى افترقنا فيها
و كم ندمت على اللحظة التى أحببتك فيها و اكتشافى أننى خيارك الثانى بعد طموحك
و اللحظة التى حلمت بك أن أراك كما أحب .. و اللحظة التى غفرت لكى فيها ما قد سلف
عقد ساعديه خلف ظهره و نظر حينا إلى المرضى الآخرين ثم تحول نظره إلى ذويهم ثم قال بنفس الصوت الشارد :
زحام شديد و كثيرا من الألم يقبع خلف كل قلب و الجميع يرجو و يبتهل أن تصبح الأمور على ما يرام أو على الأقل إلا يحدث الأسوء ...إنه الخوف من المجهول ...ياله من أمر مرعب !!!!
أعاد النظر إليها وصمت للحظات إلى ن أتته إحدى الممرضات وكانت تحمل دفترا كبيرا ثم نظرت إليها هى الأخرى وقالت بلهجه من اعتاد تلك الأمور :
لا تقلق إنها إصابات سطحية فقط ..ستكون على مايرام فى وقت قصير..إنك أحد الاقارب اليس كذلك ؟؟؟لا تقلق بشأنها
و تركته وانغمست داخل الزحام ...داخل تلك الاصوات التى يصعب تمييزها ..و التى يعرف يقينا ما هى
وضع يداه داخل معطفه قليلا ثم أخرجها و حك مؤخرة رأسه حينا ثم تنهد و هو يقول :
حوارا فلسفيا عميقا وعقيما أديره بينى و بين نفسى على أمل أجوف أن تصير الأمور كما كنت أحب أن تكون ...أنا فى مكان تتنزل فيه الرحمات ..ولا أظن أن لى مكان وسط من يرحمون ..أو أنى أرجو الرحمة فى المكان الخاطىء ..أو قد تكون هذه هى الرحمة و أنا لم أدركها بعد ....لقد حظيت بدور البطل فى قصة لم تكتمل ...أو هكذا أظن ....أو أنها لم تكن قصة فى الأساس ..أو هكذا أعتقد ....أسئلة كثيرة و لا إجابات عنها ...لأنها و ببساطة أسئلة لا يحمل إجاباتها سواك ..و قد تكون الإجابات أكثر قسوة مما يحتملها قلبى الذى يحمل فى طياته جذوه ضئيلة من الامل .
سكت هنية ثم أردف قائلا :
حتى و إن توافرت كل إحتمالات الخسارة يظل الأمل و إن تضائل حجمه و كاد يختفى هو ما يبقى فى القلوب الحياة
ألا تعتقدين هذا ؟؟؟!!!!
اشتد هطول المطر و علا صوته فتنهد مسارقة ثم قال :
تعودين من عملك متأخرة فيعترضك أحد الأشقياء محاولا إيذائك كما يحلو للذئاب أن تؤذى ضحاياها و يتصادف وجودى فى نفس المكان الهادىء فأنقذك و أذهب بك إلى المشفى بعد أن أصيب وجهك و جسدك بالسجحات و الكدمات و فقدتى الوعى من أثر الصدمة ...صدفة اغرب من الخيال ...لكن من قال أن الخيال أغرب من الواقع ؟؟!!!
تأمل من حوله مجددا دون أن يطيل النظر الى أى منهم ثم ابتسم و غمغم فى خفوت :
أتحدث إلى نفسى يالى من أبله !!!!!!!!!!!
تأمل وجهها ثم تنهد مجددا و قال بحزن :
انهارت خطبتنا لأسباب خارجة عن إرادتى ..لكن دوما لم أكن خيارك الأول ..لست خائنة ..أنا فقط ...لم أرزق ثمرة فؤادك ...أنا فقط لم أرزق حبك ...و ما الحب أيتها الحبيبة إلا رزق مقسوم بقدر معلوم
أخذ نفسا عميقا و أغمض عينيه حينا ثم فتح عينيه و قال و هو ينظر إليها بحنو حزين:
قيل لى يوما أن للمحبين عالما يخصهم وحدهم ..و تظلهم سماء أخرى غير سماء البشر ...لذا فأعتقد أنى أحيا على سماء غير سمائك و على أرض غير أرضك ..لذلك لا أعتقد أنى سألتقيك يوما على أرضك أو ستظلنا سماؤك
ثم تحرك و أتى بكرسى و جلس عليه و مجددا وضع يديه داخل معطفه و أغمض عينيه و أخذ ينصت إلى صوت المطر الذى أعاده إلى البهجة التى كانت .
إنه الطيف العطر الذى يحمل الذكرى..إنه الحب
تذكر كيف إلتقيا ...و كيف تقدم لخطبتها و وافقت ....و مع مرور الوقت إسترهب قلبه فتور مشاعرها ..فبدأ بخلق المعاذير لها .....قلبه لم يصدق أنها لا تحبه ....فلم يستطع أن يرى إلا ما يود أن يراه ....و كيف أنها لم تتذكر عيد ميلاده بحجة العمل
و كيف أنها ........و أنها .........و أنها....شريط طويل من الذكريات ...السعيدة منها و الحزينة
نظر إليها حينا و هى على حالها ثم قال بحزن حفر قسماته بكل حرف :
المبرر هو ما يعطينا العذر كى نجد العزاء على ما فقدناه ..و لكن ماذا يحدث لو ...ان لم يكن هناك مبرر ...لا خيانه ...لا شىء ...فقط لم يكن حبا ..او كان حبا بالنسبه لى على الأقل ...فإن لم يكن حبا فماذا عساه أن يكون ؟؟؟؟
أغمض عينيه لبرهة ثم أطلق زفرة حارة و فتح عينيه و قال بصوت هادىء و هو ينظر إليها :
قيل لى يوما ...لا تندم على أى ذكرى مررت بها ...فكل الذكريات الفرحة منها والمؤلمة هى ما صنعت من أنت عليه الأن ..لذا لا تحزن على حبك الضائع ..لأنه كان شيئا رائعا حتى و إن لم يكتمل ..و لا يفسده أى شىء...فلا تشوه جمال العشق لضياع المعشوق
إعتدل من جلسته و هب واقفا ثم قال :
طلبت من إحدى الممرضات أن تتصل بأبيكى حتى لا يعلم من أكون ..و هو فى الطريق إلى هنا ....لن تعلمى من أتى بك إلى هنا ..و لن تعلمى أني غفرت لك ...صحيح أني كرهت غفرانى لك ...لكنى لا أملك على قلبى سلطانا ..فهو لا يراك كما أنتى ..بل يراكى كما كنتى كذلك
كما كنتى حبيبة
قالها و إنغمس وسط الزحام ...ثم تطلع إليها حينا
و إنصرف......دون إن يرى ...إن اأمطار أخرى بدأت فى الهطول
من عينان مغمضتان ..و وجه محاط بالسجحات و الكدمات
تمت